1 - الشاعر المجنون
قال المبرد: صعدت من البصرة إلى بغداد، فمررت بدير العاقول فرأيت مجنوناً فيه. فلم أر قط
أظرف منه ولا أحسن ثياباً، ويده الواحدة على صدره. فلما دنوت منه أنشأ يقول:
الله يعلم أنني كمدٌ * لا أستطيع أبث ما أجد
روحان لي: روح تملكها * بلد، وأخرى حازها بلد
وأرى الصبابة ليس ينفعها * صبر وليس لمثلها جلد
وأظن ظاعنتي كشاهدتي * بمكانها تجد الذي أجد
فقلت: أحسنت والله، لله درك يا مجنون. فأهوى لشيء يرميني به فبعدت عنه. فقال لي: أنشدتك ما
تحبه واستحسنته. وتقول لي: يا مجنون، وتكون مع الزمان علي.
فقلت له: أخطأت.
فقال: إذن اعترفت بخطئك. ثم قال: أنشدك شعراً أيضاً؟
قلت: نعم.
فأنشأ يقول:
ما أقتل البين للمحب. وما * أوجع قلب المحب بالكمد
عرضت نفسي على البلاء لقد * أسرع في مهجتي وفي كبدي
يا حسرةً! إذ أبيت معتقلاً * بين اختلاج الهموم والسهد
فقلت: أحسنت والله زدنا، فقال:
إن فتشوني فمحرق الكبد * أو كشفوني فناحل الجسد
أضعف ما بي وزادني ألماً * أن لست أشكو النوى إلى أحد
فقلت: أحسنت والله زدنا.
فقال: يا فتى، أراك كلما أنشدتك بيتاً قلت زدنا، وما ذاك إلا لمفارقة حبيبٍ أو خل أريب، ثم قال:
أحسبك أبا العباس المبرد. بالله ما هو أنت.
قلت: أنا ذلك فمن أين عرفتني؟
فقال: وهل يخفى القمر؟ ثم قال: يا أبا العباس، أنشدني من شعرك شيئاً تنتعش به روحي، فأنشدته
قولي:
بكيت حتى بكى من رحمتي الطلل * ومن بكائي بكت أعداي إذ رحلوا
يا منزل الحي! أين الحي قد نزلوا؟ * نفسي تساق إذا ما سيقت الإبل
أنعم صباحاً، سقاك الله من طلل * غيثاً وجاد عليك الوابل الهطل
سقياً لعهدهم والدار جامعة * والشمل ملتئم والحبل متصل
فطالما قد نعمنا والحبيب بها * والدهر يسعد والواشون قد غفلوا
قد غير الدهر ما قد كنت أعرفه * والدهر ذو دول بالناس ينتقل
بانوا فبان الذي قد كنت آمله * والبين أعظم ما يبلى به الرجل
فالشمل مفترق، والقلب محترق * والدمع منسكب، والركب مرتحل
كأن قلبي لما سار عيسهم * صب به دنف أو شارب ثمل
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم * وثوروها وسارت بالهوى الإبل
وقلت من خلال السجف ناظرها * ترنوا لي، ودمع العين منهمل
يا حادي العيس! عرج بي أو دعهم * يا حادي العيس في ترحالك الأجل
إني وحقك لا أنس مودتهم * يا ليت شعري لطول العهد ما فعلوا؟
قال أبو العباس المبرد: فلما أتممت شعري. قال لي: ما فعلوا؟ قلت: ماتوا، فصاح صيحة عظيمة وخر مغشياً عليه، فحركته فوجدته قد مات. رحمة الله عليه
..................................يتبع