قطوف من شجرة الحياة
إسـكندر لوقـا
مهما حاول الإنسان الخروج من إطار الشكل، فإنه، ما دام جاهلاً حقيقة الأمور التي تجري حوله، يسقط في شباكه. فالمرأة الجميلة، على سبيل المثال، تستأثر بانتباه الرجل بدايةً، كذلك الشاب المتأنق يريح نظر المرأة بدايةً، كذلك الآنية بتناسق جوانبها؛ ذلك لأن الشكل، في عالم اليوم، هو صاحب الأثر المباشر في نفس الإنسان. هذه المعادلة تفرض مقاييسها على إنسان اليوم في سياق التمسك بأشكال الأشياء لا بجوهرها. إن جمال المرأة قد يتجسد في تناسق أطرافها، كما جمال الشاب في اختيار أسلوب تأنقه، كذلك الآنية إذا ما وضعت في مكان يظهر جمالها؛ بيد أن ذلك قد يغاير الحقيقة في وقت ما. قد يغاير حقيقة المرأة الجميلة إذا ما تعندت، في مسألة قابلة للنقاش، لشعورها بالتفوق على الآخر، كذلك يسقط الشاب في التجربة إذا ما اعتدّ بجمال قامته متجاهلاً عناصر أخرى أكثر أهمية من الشكل. كذلك بقية الأمور التي تختبئ وراء الأصبغة المستعملة في أيامنا هذه على حساب موقع الجوهر في حياتنا. ذات يوم نظر معاوية إلى رجل ضئيل في مجلسه عليه عباءة رثة، فازدراه وأبى مجاذبته أطراف الحديث، فاستشعر الرجل بالأمر وقال له: "يا أمير المؤمنين، إن العباءة لا تكلمك، إنما يكلمك من فيها" وأنشده بيتين من الشعر، فخجل معاوية وبالغ في إكرامه واحترامه.
* * *
إن البنية الاجتماعية لأيّ مجتمع من المجتمعات في زماننا هذا، سواء في الشرق أو في الغرب، تقوم على عدد غير متناه من العناصر المؤثرة التي تدخل في تكوينها. إن البعض من هذه العناصر يتوالد ذاتيًا، كما تتوالد موجات البحر بتدافعها، والبعض الآخر منها يتشارك أفراد المجتمع معًا في صنعها. وبحسب نوعية تلك العناصر، منفردة كانت أم مجتمعة، ينمو المجتمع سليمًا معافى أو مريضًا يعاني من الأزمات كما يعاني قلب المريض من شدّة الإرهاق أو الضغط النفسي على صاحبه. ولعله من المفيد لأبناء البشريّة، وخصوصًا في المراحل التاريخية الدقيقة التي يمرّون بها، أن يبحثوا عن مكونات النهوض بمجتمعاتهم، على اختلاف مواقعها، كي يتخطوا خطر الانزلاق باتجاه المنحدرات التي لا قرار لها. بذلك فقط يؤدي العقلاء في مجتمعاتهم دور الطبيب الذي يكتشف في جسم مريضه بؤرة تكاثر الجراثيم ويقضي عليها.
* * *
عندما لا ترفع النفايات من أماكنها، فمن المؤكد أنها سوف يتراكم بعضها فوق البعض الآخر. كذلك عندما لا يلجأ الجسم للدفاع عن أسباب ترديه باتجاه الإصابة بهذا المرض أو ذاك فإنه سيلقى المصير ذاته، وذلك نتيجة تراكم أسباب التردي في أطرافه. وشيء من هذا القبيل يحدث في القلب أو العقل عندما يقف المرء، بفعل التردّد تحديدًا، مكتوف اليدين أمام المشكلات التي يتشارك في صنعها مع الغير أو ينبغي له أن يتصدّى لها لكونها خارجة عن نطاق إرادته. إن الكذبة تجر الكذبة، والخطيئة تجر الخطيئة، كما تجر الكأس الأولى كؤوسًا متتابعة ولفافة التبغ الأولى تجر علبة السجائر. إن التردد في مواجهة الذات، ومن ثمَّ الانتصار على تبعاته، من أقسى الاختبارات التي يخوضها الإنسان في حياته. غير أن تخطيه لتداعيات الاختبار يعدّ نقطة البدء للسير على درب الخلاص من داء التردد - إن صحّ التشبيه. وفي اعتقادي أن ليس ثمة نقطة أخرى للبدء في هذا السياق يمكن أن ترى خارج هذا العالم الصغير- الكبير الذي نؤلفه نحن، أعني ذواتنا، مهما اتسعت أبعاد آفاقه.
* * *
من الأمور المتفق عليها أن الآمال لا تتحقق كلها حكمًا، بل قد لا يتحقق منها أي جزء لاعتبارات عدة منها ظروف أصحابها الذاتية، ومنها أيضًا ظروفهم الموضوعيّة التي تحيط بهم، وذلك على نحو الواقف عند سفح جبل ينظر إلى ذروته ولكنه لا يمتلك الوسيلة التي توصله إليها. على هذا النحو يكون تحقيق الآمال أو لا يكون. إن مجرد رسم حدود الأمل لا يعني أنه بات سهلاً على حامل القلم تحقيقه، ومن هنا مصدر الألم الذي يرافقه كلما ابتعدت المسافة بينهما. ومعلوم لدينا جميعًا أنه كلما كانت خطواتنا أسرع ونحن نسير على الدرب، كان وقع الصدمة أشدّ على صدرونا. وقد لا يتحقق الأمل-الحلم نهائيًا لسبب من الأسباب. إنما الجميل، في سياق هذه المعادلة، أن يبقى الإنسان يحلم ويفكّر. والأجمل من ذلك أيضًا أن تكون أحلامه كبيرة. فالحياة، في الأصل، كما نعلم، عالم من الأحلام، وكذلك من الأفكار الكبيرة.
* * *
يشتهي الإنسان، أيًّا كان، أن يكون كاملاً. بيد أن هذه الشهية أحيانًا تبقى في حدود الأمنية. والكمال بحدِّ ذاته مطلب عفوي يتصل بالغريزة منذ الطفولة لدى كل الناس. وفي تقدير البعض منهم أن الكمال هو كمال الصورة. وهذه الرؤية تقارب النظرة الموضوعية إلى المسألة بشكل أو بآخر، مع أن نقصًا ما في أعضاء جسم الإنسان لا ينتقص من قدر صاحبه بأي حال من الأحوال، وإن يكن في أحيان عديدة سببًا من أسباب الإساءة إلى العلاقات بين أصحاب العاهات وآخرين من حولهم. وبذلك اكتسب التشوّه، على اختلاف أشكاله، صفة اللعنة في العديد من المجتمعات وبينها مجتمعاتنا العربية تحديدًا. بيد أن القيمة الحقيقية للإنسان لا تختلف، من حيث المبدأ، أو لا يجب أن تختلف، عن طعم الثمرة الذي يكمن في جوفها، وعن رائحة الزهرة التي تحتضنها أوراقها. وكما لا ينبئ شكل الثمرة أو لونها أو قشرتها بمذاقها بصورة لا تحتمل أدنى خطأ، وكما تنطبق هذه القاعدة على الزهرة، كذلك هو الحال من حيث نظرتنا إلى صاحب عاهة، حين نكتفي فقط بتصور العلاقة بين ما هو مرئي وبين ما هو خاف عن بصرنا ولا نسعى كي نتخطى الشكل الذي يبدو أمامنا. وقد لا نخطئ، هنا، إذا ما أضفنا أن أقلّ النباتات رقيًّا هي تلك التي تتكاثر بسرعة ولا تموت بسرعة، وتقتصر وظيفتها على عمليات تزيين الأماكن التي توضع فيها، داخل البيوت أو في الساحات العامة؛ في حين أن الأكثر رقيًا بين النباتات، عمومًا، تلك التي هي أقل تكاثرًا من جهة وأقصر عمرًا من جهة أخرى. ومن هنا الدعوة للبحث عن "الإنسان" في الإنسان لا الوقوف عند مواصفات شكله الخارجي فقط.
* * *
عندما يكون الفكر شاهدًا على عصره يكتسب عنصرًا هامًا من عناصر ديمومته. إن صفحة من التاريخ لا يمكن أن تطوى عبثًا، أو بفعل فاعل يجهل أو يتجاهل قيمة التاريخ. وإن هي طويت، لأي سبب من الأسباب، فلا بدّ أن تطوي معها جزءًا من وجودٍ كان قائمًا في زمانها لم يكن مؤهلاً للصمود. بهذا المعنى يبدو الفكر الملتصق باللحظة الراهنة، أو بالحدث العادي العابر، كما قطرة الماء حين تسقط على سطح رملي، لا تترك وراءها أي أثر يدل على مكان أو تاريخ سقوطها. إن الفكر، حين يكون شاهدًا حقيقيًا على عصره، يعيش عصره حتى في العصور الآتية من بعده. ومن هنا يكتسب الفكر ديمومته وتأثيره على الأجيال اللاحقة عندما يكون شاهدًا حقيقيًا على زمانه، ويستعصي على فعل الجهلة والعابثين. على هذا النحو، يقيَّم الأدب والفن والعلم، وذلك من خلال علاقة أعلامها الكبار بنتاجهم، سواءًا كانوا أحياءًا أم لا. وبهذا المنحى تكتسب شهادات هؤلاء قيمتها في صنع الحاضر والمستقبل في آن واحد.
* * *
ليس انتقاصًا من قدر الإنسان العادي أن يقال إنه أدنى مرتبة من الإنسان المبدع الذي خلق كي يؤدي دورًا له قيمته في التاريخ، سواءًا أكان أداؤه في مضمار العلم أو الأدب أو الفن. فالإنسان العادي يحتضن في أعماقه، كما الآخر، العواطفَ والنوازع المختلفة التي تصنع المحبة والكراهية، الوطنية والخيانة، الضعف والقوة ... الخ. وفي سياق هذا التفاوت بين القدرة على العطاء أو الإبداع الذي يميز إنسانًا ما عن سواه، تتجمع الطاقات الفردية لتؤلف كتلة تعمل معًا، وبيد واحدة بمعنى ما، من أجل إشادة البناء الحضاري للبشرية، في حين تتجمع الطاقات الأخرى لتؤدي دور الآخذ أو المتلقّي، وذلك على نحو الفرق بين النبع الذي يتفجر من جوف الأرض وبين التربة التي تمتص ذرات الماء، وبالتالي كالفرق بين الرسام الذي يبدع في صنع لوحة جميلة، وبين المتفرّج الذي يكتفي بمشاهدة جزئياتها ويكتفي بأن يستشعر هدوءًا.
إسـكندر لوقـا
مهما حاول الإنسان الخروج من إطار الشكل، فإنه، ما دام جاهلاً حقيقة الأمور التي تجري حوله، يسقط في شباكه. فالمرأة الجميلة، على سبيل المثال، تستأثر بانتباه الرجل بدايةً، كذلك الشاب المتأنق يريح نظر المرأة بدايةً، كذلك الآنية بتناسق جوانبها؛ ذلك لأن الشكل، في عالم اليوم، هو صاحب الأثر المباشر في نفس الإنسان. هذه المعادلة تفرض مقاييسها على إنسان اليوم في سياق التمسك بأشكال الأشياء لا بجوهرها. إن جمال المرأة قد يتجسد في تناسق أطرافها، كما جمال الشاب في اختيار أسلوب تأنقه، كذلك الآنية إذا ما وضعت في مكان يظهر جمالها؛ بيد أن ذلك قد يغاير الحقيقة في وقت ما. قد يغاير حقيقة المرأة الجميلة إذا ما تعندت، في مسألة قابلة للنقاش، لشعورها بالتفوق على الآخر، كذلك يسقط الشاب في التجربة إذا ما اعتدّ بجمال قامته متجاهلاً عناصر أخرى أكثر أهمية من الشكل. كذلك بقية الأمور التي تختبئ وراء الأصبغة المستعملة في أيامنا هذه على حساب موقع الجوهر في حياتنا. ذات يوم نظر معاوية إلى رجل ضئيل في مجلسه عليه عباءة رثة، فازدراه وأبى مجاذبته أطراف الحديث، فاستشعر الرجل بالأمر وقال له: "يا أمير المؤمنين، إن العباءة لا تكلمك، إنما يكلمك من فيها" وأنشده بيتين من الشعر، فخجل معاوية وبالغ في إكرامه واحترامه.
* * *
إن البنية الاجتماعية لأيّ مجتمع من المجتمعات في زماننا هذا، سواء في الشرق أو في الغرب، تقوم على عدد غير متناه من العناصر المؤثرة التي تدخل في تكوينها. إن البعض من هذه العناصر يتوالد ذاتيًا، كما تتوالد موجات البحر بتدافعها، والبعض الآخر منها يتشارك أفراد المجتمع معًا في صنعها. وبحسب نوعية تلك العناصر، منفردة كانت أم مجتمعة، ينمو المجتمع سليمًا معافى أو مريضًا يعاني من الأزمات كما يعاني قلب المريض من شدّة الإرهاق أو الضغط النفسي على صاحبه. ولعله من المفيد لأبناء البشريّة، وخصوصًا في المراحل التاريخية الدقيقة التي يمرّون بها، أن يبحثوا عن مكونات النهوض بمجتمعاتهم، على اختلاف مواقعها، كي يتخطوا خطر الانزلاق باتجاه المنحدرات التي لا قرار لها. بذلك فقط يؤدي العقلاء في مجتمعاتهم دور الطبيب الذي يكتشف في جسم مريضه بؤرة تكاثر الجراثيم ويقضي عليها.
* * *
عندما لا ترفع النفايات من أماكنها، فمن المؤكد أنها سوف يتراكم بعضها فوق البعض الآخر. كذلك عندما لا يلجأ الجسم للدفاع عن أسباب ترديه باتجاه الإصابة بهذا المرض أو ذاك فإنه سيلقى المصير ذاته، وذلك نتيجة تراكم أسباب التردي في أطرافه. وشيء من هذا القبيل يحدث في القلب أو العقل عندما يقف المرء، بفعل التردّد تحديدًا، مكتوف اليدين أمام المشكلات التي يتشارك في صنعها مع الغير أو ينبغي له أن يتصدّى لها لكونها خارجة عن نطاق إرادته. إن الكذبة تجر الكذبة، والخطيئة تجر الخطيئة، كما تجر الكأس الأولى كؤوسًا متتابعة ولفافة التبغ الأولى تجر علبة السجائر. إن التردد في مواجهة الذات، ومن ثمَّ الانتصار على تبعاته، من أقسى الاختبارات التي يخوضها الإنسان في حياته. غير أن تخطيه لتداعيات الاختبار يعدّ نقطة البدء للسير على درب الخلاص من داء التردد - إن صحّ التشبيه. وفي اعتقادي أن ليس ثمة نقطة أخرى للبدء في هذا السياق يمكن أن ترى خارج هذا العالم الصغير- الكبير الذي نؤلفه نحن، أعني ذواتنا، مهما اتسعت أبعاد آفاقه.
* * *
من الأمور المتفق عليها أن الآمال لا تتحقق كلها حكمًا، بل قد لا يتحقق منها أي جزء لاعتبارات عدة منها ظروف أصحابها الذاتية، ومنها أيضًا ظروفهم الموضوعيّة التي تحيط بهم، وذلك على نحو الواقف عند سفح جبل ينظر إلى ذروته ولكنه لا يمتلك الوسيلة التي توصله إليها. على هذا النحو يكون تحقيق الآمال أو لا يكون. إن مجرد رسم حدود الأمل لا يعني أنه بات سهلاً على حامل القلم تحقيقه، ومن هنا مصدر الألم الذي يرافقه كلما ابتعدت المسافة بينهما. ومعلوم لدينا جميعًا أنه كلما كانت خطواتنا أسرع ونحن نسير على الدرب، كان وقع الصدمة أشدّ على صدرونا. وقد لا يتحقق الأمل-الحلم نهائيًا لسبب من الأسباب. إنما الجميل، في سياق هذه المعادلة، أن يبقى الإنسان يحلم ويفكّر. والأجمل من ذلك أيضًا أن تكون أحلامه كبيرة. فالحياة، في الأصل، كما نعلم، عالم من الأحلام، وكذلك من الأفكار الكبيرة.
* * *
يشتهي الإنسان، أيًّا كان، أن يكون كاملاً. بيد أن هذه الشهية أحيانًا تبقى في حدود الأمنية. والكمال بحدِّ ذاته مطلب عفوي يتصل بالغريزة منذ الطفولة لدى كل الناس. وفي تقدير البعض منهم أن الكمال هو كمال الصورة. وهذه الرؤية تقارب النظرة الموضوعية إلى المسألة بشكل أو بآخر، مع أن نقصًا ما في أعضاء جسم الإنسان لا ينتقص من قدر صاحبه بأي حال من الأحوال، وإن يكن في أحيان عديدة سببًا من أسباب الإساءة إلى العلاقات بين أصحاب العاهات وآخرين من حولهم. وبذلك اكتسب التشوّه، على اختلاف أشكاله، صفة اللعنة في العديد من المجتمعات وبينها مجتمعاتنا العربية تحديدًا. بيد أن القيمة الحقيقية للإنسان لا تختلف، من حيث المبدأ، أو لا يجب أن تختلف، عن طعم الثمرة الذي يكمن في جوفها، وعن رائحة الزهرة التي تحتضنها أوراقها. وكما لا ينبئ شكل الثمرة أو لونها أو قشرتها بمذاقها بصورة لا تحتمل أدنى خطأ، وكما تنطبق هذه القاعدة على الزهرة، كذلك هو الحال من حيث نظرتنا إلى صاحب عاهة، حين نكتفي فقط بتصور العلاقة بين ما هو مرئي وبين ما هو خاف عن بصرنا ولا نسعى كي نتخطى الشكل الذي يبدو أمامنا. وقد لا نخطئ، هنا، إذا ما أضفنا أن أقلّ النباتات رقيًّا هي تلك التي تتكاثر بسرعة ولا تموت بسرعة، وتقتصر وظيفتها على عمليات تزيين الأماكن التي توضع فيها، داخل البيوت أو في الساحات العامة؛ في حين أن الأكثر رقيًا بين النباتات، عمومًا، تلك التي هي أقل تكاثرًا من جهة وأقصر عمرًا من جهة أخرى. ومن هنا الدعوة للبحث عن "الإنسان" في الإنسان لا الوقوف عند مواصفات شكله الخارجي فقط.
* * *
عندما يكون الفكر شاهدًا على عصره يكتسب عنصرًا هامًا من عناصر ديمومته. إن صفحة من التاريخ لا يمكن أن تطوى عبثًا، أو بفعل فاعل يجهل أو يتجاهل قيمة التاريخ. وإن هي طويت، لأي سبب من الأسباب، فلا بدّ أن تطوي معها جزءًا من وجودٍ كان قائمًا في زمانها لم يكن مؤهلاً للصمود. بهذا المعنى يبدو الفكر الملتصق باللحظة الراهنة، أو بالحدث العادي العابر، كما قطرة الماء حين تسقط على سطح رملي، لا تترك وراءها أي أثر يدل على مكان أو تاريخ سقوطها. إن الفكر، حين يكون شاهدًا حقيقيًا على عصره، يعيش عصره حتى في العصور الآتية من بعده. ومن هنا يكتسب الفكر ديمومته وتأثيره على الأجيال اللاحقة عندما يكون شاهدًا حقيقيًا على زمانه، ويستعصي على فعل الجهلة والعابثين. على هذا النحو، يقيَّم الأدب والفن والعلم، وذلك من خلال علاقة أعلامها الكبار بنتاجهم، سواءًا كانوا أحياءًا أم لا. وبهذا المنحى تكتسب شهادات هؤلاء قيمتها في صنع الحاضر والمستقبل في آن واحد.
* * *
ليس انتقاصًا من قدر الإنسان العادي أن يقال إنه أدنى مرتبة من الإنسان المبدع الذي خلق كي يؤدي دورًا له قيمته في التاريخ، سواءًا أكان أداؤه في مضمار العلم أو الأدب أو الفن. فالإنسان العادي يحتضن في أعماقه، كما الآخر، العواطفَ والنوازع المختلفة التي تصنع المحبة والكراهية، الوطنية والخيانة، الضعف والقوة ... الخ. وفي سياق هذا التفاوت بين القدرة على العطاء أو الإبداع الذي يميز إنسانًا ما عن سواه، تتجمع الطاقات الفردية لتؤلف كتلة تعمل معًا، وبيد واحدة بمعنى ما، من أجل إشادة البناء الحضاري للبشرية، في حين تتجمع الطاقات الأخرى لتؤدي دور الآخذ أو المتلقّي، وذلك على نحو الفرق بين النبع الذي يتفجر من جوف الأرض وبين التربة التي تمتص ذرات الماء، وبالتالي كالفرق بين الرسام الذي يبدع في صنع لوحة جميلة، وبين المتفرّج الذي يكتفي بمشاهدة جزئياتها ويكتفي بأن يستشعر هدوءًا.