في جبل العرب لا ينفصل الغناء والموسيقا عن أشكال التعبير بالجسد، وهذا ما أعطى غنى لتراث وفلكلور تلك المنطقة العريقة.
ولربما كانت دبكات جبل العرب عنواناً عريضاً لذلك التعبير المرافق لغناء أهل المنطقة وموسيقاهم الجميلة، وهو ما تحدث عنه الباحث المهندس "هايل أبو ترابه" لموقع eSyria مستعرضاً أنواع الدبكات هناك على اختلاف مناسباتها وأصولها وأسمائها.
فبدأ حديثه عن "الدبكة الجبلية" والتي تحتاج- بحسب قوله- إلى آلة موسيقية مرافقة مثل "المجوز" أو الناي (ما يطلق عليها اسم "الشبّابة") ويتابع قائلاً: «الدبكة التي ترافق العزف على المجوز تسمى "دبكة المجوز" وفيها يصطف "الدبيكة" بنسق أو اثنين، والشاب الذي يقف على رأس النسق يحمل بيده اليمنى "مسبحة" يلوّح بها، ويشبك يده اليسرى بيد زميله، ثم يهتز ويهتز ويرخ أو "ينخ" حتى يصل رأسه في بعض الأحيان إلى الأرض، في حين يبقى زميله متمسكاً به كي لا يقع أرضاً. ومن الحركات التي يقوم بها "الدبيك" "الفرشخة" مثل "راقص الباليه" حتى تصل رجلاه على استقامة واحدة، وفي بعض الأحيان ومع حماس الحضور ينزل إلى الدبكة أو الساحة أكثر من مجموعة، ويجب على المجموعة أن تكون منسجمة مع بعضها بعضاً لتؤدي دبكة متقنة وجاذبة للأنظار».
ويضيف: «ويعتبر "المجوز" من الآلات الموسيقية الحماسية التي يمكن أن تسير أمام الجموع المحتشدة إن كان في الأعراس أو حتى في أيام الحرب، كما يمكن لعازف "المجوز" أن يقوم بعدة ألحان بحسب الواقع الذي يكون عليه الحفل».
ثم يتحدث عن مهمة عازف المجوز في هذه الأثناء وهي كما يقول: «يوزع عازف المجوز الأدوار بالتساوي على المجموعات، وكل مجموعة لها الحق بقول بيت من الشعر يُطرِبُ الحضور ويُحمّس "الدبيكة"، وتعتبر هذه الدبكة من أصعب الدبكات وفيها من الفن الشيء الكثير، كما أنها تراثية قديمة وإيقاعها مختلف عن باقي الدبكات، وهي منتشرة في جنوبي سورية ولبنان وفلسطين والأردن».
ثم ينتقل السيد "أبو ترابة" للحديث عن نوع آخر من الدبكات والتي تسمى "الهولية" فيقول: «تعتبر "دبكة "الهولية" من الدبكات الجماعية ففيها تتشابك الأيدي مع بعضها، أو توضع على الأكتاف، كل شاب يضع يديه على كتفي الشابين المجاورين له. وفي هذه الدبكة الكثير من الفن وحركاتها: خطوتان إلى الأمام، وخطوة إلى الوراء، وهكذا».
ولهذه الدبكة شعر "حماسي" يلقى أثناء تنفيذها، وهنا يقول "أبو ترابه": «عندما يزداد في نفوس "الدبيكة" هذا الحماس الذي ألهبه الشعر، يقوم البعض منهم اثنان أو ثلاثة بـ"الرخ" للأسفل مع ضرب الأرض بقوة مما يزيد من حماس الدبيكة وكذلك الحضور، وتحتاج هذه الدبكة في بعض الأحيان إلى قوة لتسند الذين يرخون إلى الأرض كي يبقوا منتصبين على أرجلهم».
ويذكر لنا مثالاً
على نوعية الأغاني المرافقة لهذه الدبكة وهي: «ويلي محلاها هالبنت الريفية/ بعيونا بتلمع شمس الحرية.
وأغنية أخرى تقول كلماتها: لكتب ورق وارسلك/ يلي مفارق خلّك
بديرتك بعد وجفا/ بديرتي احسنلك/ بديرتي بترتاحي/ يا بو العيون ملاحي».
أما دبكة "الجوفية" فهي كغيرها من الدبكات تتسم بالجماعية، كما أنها تستوعب عدداً كبيراً من المشاركين لأنها لا تحتاج لإتقان كبير، ويضيف "أبو ترابه" شارحاً إياها فيقول: «في هذه الدبكة يصطف المشاركون في نصفي دائرة أحدهما يبتدئ بالغناء ويرد عليه النصف الآخر، ويمكن أن يساهم في هذه الدبكة عدد كبير حتى تكتمل الدائرة، وتتوسع هذه الدائرة حسب عدد المشاركين. وكلمات أغنية هذه الدبكة تتألف من ثلاث أو أربع كلمات على مبدأ: "تحلالي حمرة تحت ناثر الشوشة/ يا منوة اللي يبغونا للطراد"».
ويتابع قائلاً: «يزداد حماس الدبيكة بزيادة حماس المشجعين، ويمكن أن يخرج شخص أو اثنان أو أكثر من بين جموع الدبيكة ويبدؤون بالتصفيق الحماسي، فيرد الجميع بنفس التصفيق بما يتلاءم مع وزن الشعر المغنى، ويمكن أن تقوم فتاة، أو أكثر ببث الحماس في الرجال الدبيكة».
ومما يزيد الأفراح بهجة ويزيدها ألقاً وجود "الربابة" هذه الآلة التراثية القديمة، يتحدث عنها "أبو ترابه" فيقول: «هي آلة موسيقية تراثية قديمة من قدم الجبل وسكانه، يقتنيها الشعراء لنقل ومرافقة شعرهم، والشاعر يمكن أن يقول فيها الشعر "التراثي"، "الحماسي"، و"الحربي"، وكذلك الشعر "النبطي"، أو "الهجيني" وقد تستخدم أيضاً في الأعراس برقصة "اللوحة" من الجنسين الشابات والشبان، أو "الدلعونا". وأهم ما يقال مع الربابة هو "العتابا"».
ومن الأشياء التي لا تكتمل إلا باكتمال مشهد "الدبكة" تظهر لنا "قصيدة الفن" كإرث ثقافي، وموروث إنساني له أبعاده ودلالاته العميقة في نفس أهالي "جبل العرب" فلماذا هذه القصيدة؟.. يجيبنا الباحث "هايل أبو ترابه" فيقول: «تعتبر "قصيدة الفن" من التراث القديم، وهي تحكي حياة رجل عاشق أو رجل حرب أو نضال شعب، وطريقة أدائها بأن يقف على المجموعة شاعر أو من يحفظ "قصيدة الفن" ومهمة البقية إعادة البيت الأول فقط، وتسير المجموعة بخطوة بطيئة جداً، بينما يحمل الفنان بيده "مسبحة" أو "سلسلة معدنية" (سنسالاً) أو عصا صغيرة يلوح بها أثناء قوله القصيدة لإضفاء جو من الحركة وكسر الجمود بين المشاهدين، وقد يقوم الفنان ببعض الحركات لتنشيط الدبيكة والحضور معاً، ولها أهمية كبرى بنقل الشعر وحفظ التراث وتناقله من جيل إلى آخر».
وتبقى "الهجيني" من طقوس وأعراف الناس الرّحل، فيقول في ذلك "أبو ترابه": «أساس هذا الشعر من ركوب "الهجن" أي "الجِمال" أثناء الترحال، مثالنا على ذلك: "أمس الضحى وحلمت أنا بليلة مبارح/ إني على شط البحر نايم بروضة"».