في حين أن الكثيرين يظنون أن «العقل» هو من يحدد معنى «الإرادة» سوف نتعرف إلى حقيقة مخالفة
بل وعلى النقيض؛ وهي أن الإرادة هي من يحدد معنى العقل. لقد توقف كثيرون من الفلاسفة عند
هذه النقطة المهمة واختلفوا حولها أيما اختلاف، ويهمنا منهم أولئك النفر الذين انحازوا
إلى جانب الإرادة واعتبروها أساس الوجود البشري والتجمع الإنساني والحضاري..
ما هو مفهوم العقل والإرادة؟؟؟؟؟؟؟
فنحن قد جعلناهما أشبه بالضدين أو النقيضين، وهذا صحيح تبعا" للتعريف السائد
نقول: العقل أو العقلي هو صفة لكل حقيقة موضوعية لا تخضع للتحيز العرقي أو الديني أو الشخصي،
وهذه الحقيقة تفرض نفسها علينا فرضا فلا نجد بدا من قبولها.
والإرادة ــ حسب التعريف السائد هي المنبع لكل الحقائق أو الآراء
والميول الشخصية والفردية والفئوية. إنها تعبير عميق عن الأساس الغريزي للإنسان الذي تطور وتوسع مع
مرور الزمن وأصبح منظومة من الآراء والأفكار التي تدعي الموضوعية والحياد.
من أشهر الفلاسفة الذين تطرقوا لمفهوم «الإرادة» الفيلسوف الألماني «فريدريك نيتشه» الذي رأى أن
الإرادة الإنسانية وتحديدا" إرادة القوة هي المنبع الجوهري لكل نشاط عقلي واجتماعي وقيمي،
وقد تأثر في هذا الصدد بسلفه المباشر «شوبنهور» الذي بدوره رأى أن إرادة الحياة هي السبب
الأساسي لكل سلوك.
وقد غالى هذا الأخير كثيرا" حينما سحب هذه النظرية على ما هو غير بشري، إذ رأى ــ مثلا" ــ
أن النبات الذي يميل نحو الضوء لا يميل بذاته ولذاته وإنما هي الحياة ــ بصورة عامة ــ
التي تتجلى فيه وتدفعه دفعا لكي يحيا ويعيش على الماء وضوء الشمس.
لماذا تريد الحياة أن تستمر في الوجود؟.
لماذا تتجلى في الكائنات البشرية وغير البشرية ولا تستعيض عنهما بنفسها؟
هذا ما لا يقدر العقل على تفسيره.
من هنا رأى نيتشه أن مفهوم الإرادة قادر على حل كثير من الألغاز الفلسفية المعقدة؛
وقد يقول قائل إن هذا الحل بحد ذاته لغز، وأكثر غموضا" وإشكالا" من المشكلة، وهذا صحيح،
ولكننا عند التحقيق الأخير سنجد أنه حل بسيط أو غير معقد، لسبب واحد وهو أن تفسير
العقل باللاعقل أيسر من تفسير العقل واللاعقل معا" أو على حدة بالعقل. فالعقل يطلب
البراهين ويتقصى وراء كل جواب نابشا فيه عن سؤال جديد. أما الأفكار أو المفردات التي تعبر
عن اللاعقل فهي ترفض مثل هذا الاستقصاء والاستطراد.
لذا:
فإنه من السهل جدا للإرادة ــ كما يفهمها فلاسفتها ــ أن تؤسس للعقل ـ
ولكنه صعب جدا" للعقل أن يفهم ويتعرف على جوهر الإرادة.
ورغم ذلك فالجانب المأمون هو جانب العقل، لأن الإرادة تنطوي على تعسف وتحكم، أقصد إنها تفترض
افتراضا" ما وتبني عليه دون تحقق من هذا الافتراض، بل إنها لا تسمح لأحد أن يمارس هذا الدور.
أن قراءة الوضع التاريخي والسياسي والثقافي بناء على مفهوم الإرادة سيضيء لنا كثيرا"
من المناطق المعتمة والغامضة، ليس لأن فلاسفة الإرادة على حق، ولكن لأن الإنسان بطبعه يميل
إلى ما يريد وليس إلى ما يعرف ويعقل. والكشف عن حقيقة أن الحضارات البشرية
تتبع الإرادة وليس العقل لا يمكن أن يجعل هذا الحقيقة شيئا" أزليا" مطلقا"،
أي إن استمرار الخطأ لا يجعله حقيقة صائبة وأبدية.
«فنحن نريد ثم نمنطق أو نعقلن» كما يقول نيتشه، وهذه العبارة مهمة جدا للإفصاح عن دور
الإرادة في التاريخ البشري، فكثيرا من القوى الأيديولوجية والسياسية والدينية ترى أنها
تتبع الحق الموضوعي والمحايد، بينما هي في الحقيقة تتبع الإرادة الخاصة بها؛ فهي لا تتبع
هذا الرأي لأنه حق، بل هو حقّ لأنها تريده !. أليست هذه حقيقة واصفة ودقيقة يمكن لنا عبرها
قراءة ليس معظم التواريخ البشرية بل كلها ؟! بلى، إنها هي طبيعة التاريخ البشري حتى الآن !،
هل ستتغير؟
لا ندري، فنحن لا نتحدث عن حقيقة خالدة، فكل الحقائق معرضة للتغير، بل إني أرى أنها لا تكون
حقيقة ما لم تكن كذلك. صحيح أن فكرة أنه ليس هناك حقيقة مطلقة وإنما نسبية هو شيء مزعج لنا،
ولكنه كفيل بجعلنا أكثر مرونة وتسامحا وتساهلا مع الأفكار المغايرة لأفكارنا، ومع البشر
المختلفين عنا. إنني ــ والحال هذه ــ لن أضحي وأموت من أجل فكرة أنا من اخترعها أو اعتنقها،
وربما بعد حين سأتخلى عنها وأتبنى غيرها. كما إني لن أقسو وأبالغ في الجفوة مع شخص لا ينتمي
لثقافتي وأفكاري وعاداتي لأنه قد يكون صائبا" وأنا المخطئ !،
فليس ثمة أشد ولا أدعى للتعصب والتطرف من الاعتقاد بفكرة ما اعتقادا صارما"، فالبشر ليسوا
سواء في أنماط الحياة وطرائق كسب العيش وأساليب ارتداء الأزياء والتجمل ونحوها،
ولهذا فمن الجهل أن نتجاهل هذا التنوع الرائع والاختلاف الطبيعي بيننا نحن البشر.
إن فكرة استيلاء الإرادة على تصورات العقل ومفاهيمه ــ رغم ما يشوبها من غموض ورغم صعوبة
الجزم بها ــ إلا أنها قادرة على جعلنا أكثر تحضرا" وإنسانية ورقيا".
فهي تدفعنا للإيمان «بالنسبية» التي هي المدخل الفسيح للتسامح.
وهل ثمة قيمة أعظم من التسامح والإيمان بالاختلاف الثقافي والعقدي والعرقي جديرة
بتطوير حياتنا وضمان تقدمها ؟!.
سامحوني الموضوع طويل حاولت جاهدة أن أختصر منه لكن لم أفلح بسبب ترابطه
ككل ......السماح ...........