في ذاكرتي من أيام المرحلة الابتدائية قصة ممتعة .......
وهي قصة (الملك العاري والنساج المحتال) ..
والتي تتحدث عن ملك ساذج، وجد نساج محتال طريقاً إليه وأقنعه بأن يصنع له ثياباً نفيسة (وبالطبع مكلفة
جداً) و ذات ميزة عظيمة وهي أن الأغبياء وحدهم لا يرونها!
صدق الملك قليل الخبرة كلام النساج وفي اليوم الموعود اجتمع أركان الدولة في القصر العظيم، بعدما أُمر
الشعب المسكين بالاحتشاد لإظهار الفرحة بالثياب العظيمة لمولانا الملك!
أمام الجميع وفي القصر بدأ النساج المحتال بخلع ثياب الملك قطعة قطعة وإلباسه بدلاً عنها ذلك القماش
المزعوم، وبدأ تهريج الحاشية: ماشاء الله يامولاي، شيء عظيم.. ثياب رائعة ... ولم يصدق كبير الحكماء
عينيه فقد بدأ الملك يتحول إلى رجل عارٍ ، ولكنه (كما هي عادة المنافقين) خشي أن يقول الحق.
الملك نفسه بدأ يشك بنفسه فهاهي ثيابه تخلع عنه قطعة وراء أخرى ولا بديل عنها! ولكن الملك قال في نفسه
بين حشود المنافقين: هل من المعقول أن الكل يراها! وأنا .. فقط .. أنا الذي لا يراها! هل يعني ذلك
أنني الغبي الوحيد هنا! ثم التفت فجأة نحو كبير حكمائه قائلاً بزهو الأغبياء: مارأيك ياكبير الحكماء؟
ولم يكن ذلك الكبير يرى إلا العري القبيح ولكنه شهق قائلاً: مولاي ماهذه الثياب المدهشة بالفعل إنها شيء
لا يصدق، والتفت برأسه نحو النساج المحتال قائلاً بضيق مكتوم: إن النساج الذي صنع هذه الثياب الباهرة
لجد ماهر ومتقن!
النساج المحتال رد على كلام كبير الحكماء بانحناءة رأس ماكرة! وتعالت صيحات الإعجاب ... الكل أقسم أنه
لم ير مثل تلك الثياب من قبل، والكل جزم بأن الملك موفق جداً في اختيار نساجه المبدع، والكل أصر أن
تلك الثياب لائقة جداً جداً بالملك ..
حياة النفاق جعلت كل أفراد البلاط يسكتون، و لأن تلك الثياب البديعة وحدهم الأغبياء لا يرونها وخشية أن
يتهم واحدهم بالغباء رضي الجميع بأن يباع الملك دون ثمن ..
وأخيراً أصبح الملك عارياً حتى من ورقة التوت التي تغطي عورته ... فقد ألبسه النساج بدل كل قطعة خلعها
عنه قطعة أخرى بديعة الصنع ،ووحدهم الأغبياء لا يرونها!! وصار الملك يوزع ابتساماته البلهاء بين
الحضور ... وهم يبادلونه الحماس .. حتى أن رئيس صناديق المملكة قد تأثر لدرجة البكاء وهو يتحسس طرف
العباءة المزيفة التي يرتديها الملك صارخاً بانفعال شديد: شيء لا يصدق .. لا يصدق أبداً يا مولاي ...
أهنئكم على هذا الذوق الرفيع..
نظرات الافتتان والتقدير بُذلت من الحاشية دون حساب وصيحات الإعجاب بدت مثل سيل هادر انتقل زخمه إلى
القطيع الموجود خارج القصر الذي كان ينتظر على أحر من الجمر طلة الملك البهية مرتدياً ثيابه الذكية
(كشافة الأغبياء) والتي أصبحت حديث كل لسان..
وأخيراُ فتح باب القصر وأطل الملك بعريه الكامل لتحييه الجماهير .. فقط ثوان من الذهول اعترت القطيع
الكبير ثم ما لبثت أن تبدلت إلى نشوة عارمة عندما صاح أحد المرتزقة .. فليحيا مولانا الملك بثيابه
العظيمة... ورددت الجماهير المحتشدة: فليحيا الملك .. وثيابه العظيمة
ومثل البرق سرت الصيحات: أوه ... شيء رائع شيء عظيم ... جميل مدهش .. فتان ... لا يصدق ... بل إن
التأثر بلغ بالبعض إلى حد الإغماء ... بينما قام الباقون بالدبك بكل قوة تعبيراً عن الامتنان والشكر
الدفين الذي يكنه القطيع الكبير في أعماق فؤاده لمولانا الملك ..
كل فرد من الحاشية أو الرعية، بل الملك نفسه أخذ يتساءل: ماهذا الحظ التعيس .. حتى أكون أنا وحدي
الغبي الذي لا يرى تلك الثياب المدهشة .. وهز الملك رأسه بحيرة بالغة .. وكاد يبكي لكنه تجلد وعاد
يتبادل التحيات مع شعبه ... ويلوح لهم بقبضته: نعم .. أيها القطيع الرائع ... حتى آخر قطعة ثياب ..
العربة المكشوفة سارت بين الجماهير المكتظة ... والكل يصفق ويدبك ويرقص ... وفجأة حصل مالم يكن في
الحسبان ...
كان هناك طفل في العاشرة ينتقل مع القطيع وقد شاهد الموكب من أوله ... وبدأت الحيرة والشك يتسللان
إليه، ولكنه جمع كل قوته ليصعد على عمود عال، ثم استجمع كل شجاعته ليصرخ بصوت اخترق كل ضجيج الراقصين
والدبّاكين : أيها الكذابون ... إن الملك لا يرتدي أية ثياب!! إن الملك عار ... الملك عار ..
ومثل سريان النار في الهشيم دبت الصيحة في القطيع ... وكأن بقايا العقل القديم الذي كان فيه قد
استيقظ ففر الناس هائمين على وجوههم ... وحتى الحاشية المذعورة أصابها الذهول ففرمعظمها وكل فرد
منها فتح فمه حتى النهاية وفي عينيه بريق دهشة ممتزجة برهبة الحقيقة المرة ..
بعض الماكرين وقفوا قريباً من عربة الملك وهم يقهقهون وقد أمسكوا خواصرهم من شدة الضحك .. وأحدهم ضرب
يده على جبهته وهو يكاد يتمزق من المفارقة العجيبة ..
لم يجد الملك شيئاً يستر به عورته ... وحدهم بعض الأتقياء غضوا من أبصارهم احتراماً للملك بينما كان بعض
أفراد الحاشية الخبيثة يحملقون بشراهة ...